اللهم صل على سيدنا محمد واله الاطهار
قبل أن نحكم على حكايات تأبط شرًّا مع الجن علينا أن نقول أننا نؤمن إيماناً لاشك فيه بوجود الجن وأكبر دليل على ذلك ورود سورة كاملة باسمهم في القرآن الكريم.
كما أن لدينا ظن بالفعل بوجود علاقة احتكاك قد تحصل بين بعض الجن والإنس وخبر لقائهم مع الرسول -صلى الله عليه واله وسلم-بوادي نخلة مشهور ومعروف وهو سبب نزول سورة الجن.
وأيضاً هناك احتمال كبير لاحتكاك الجن مع الشعراء أكثر من غيرهم من عوام الناس وذلك بسبب توفر عدد من الظروف التي تجعلهم أكثر قرباً للقاء بهم فالشعراء يفضلون الوحدة وكذلك الليل والأماكن النائية البعيدة عن سكنى الناس. واجتماع هذه الظروف الثلاثة مشهور لدى الناس أنه يجعل احتمالية لقاء الجن أكبر. فإذا أضفنا لذلك أن تأبط شرًّأ كان كافراً لايذكر الله وفوق كفره كان لايعترف بأخلاق كثيرة وعند ذلك فلن نعجب من ورود أخبار له مع الجن لكن هل في هذه الأخبار مايمكن تصديقه ؟ سوف نرى ذلك واحكموا بأنفسكم...
أيضاً فما كان لتأبط شرًّا من صفات قوية وبكثرة غريبة كان يجعل عدداً من معاصريه يظنون أن له علاقة مع الجن فقد اشتهر بالشعر في قبيلة فهم وهي التي لم يشتهر فيها شاعرٌ واحد غيره، أضف لذلك ماكان له من حدة البصر وقوة السمع وسعة الحيلة وشدة الاهتداء والاستدلال على الطرق ليلاً ونهاراً...ألا ترون أن شيطاناً مثل هذا يمكن أن يكون له علاقة مع الجن؟!
قصة حمله للغول:
- أولاً لمن لايعرف فالغول هي نوع من الجن يلوح لنا من كلام الشعراء العرب أنها الأنثى من الجن لأن الخطاب عنها يأتي في الشعر بصيغة التأنيث.
وقد ورد في أخبار تأبط شرًّا في سبب تلقيبه بهذا اللقب:
أن أمه طلبت منه أن يجلب لها شيئاً يسرها به فخرج من دياره يفكر فإذا به يجد كبشاً لايعلم مالكاً له، فالتقطه من فوره وحمله تحت إبطه وذهب به لأمه فلما أحس أنه ثقل عليه أراد أن يضعه فوجد أنه قد تحول إلى غول فقيل" تأبط شرًّا"...
وهنا انتهت القصة لكن لو سمحنا لأنفسنا ببعض الشقاوة ووضعنا نقطة تفتيش وقلنا: مع مانعلمه من كون تأبط شرًّا نحيل الجسم فهل كان يمكن له وهو صغير السن أن يحمل "كبشاً" تحت إبطه وليس على ظهره أو على كتفيه؟! علينا أن لا ننسى أنهم يتحدثون عن كبش وليس عن حمل أو نعجة صغيرة أو جدي أو حتى عنز... وهنا أترك لكم المجال لتحكمون.
قصة استضافته للجن:
- ذكروا في قصص تأبط شرًّا كان يوماً على سفر فأشعل ناره ليلاً فإذا به يفاجأ بضيوف فرحب بهم وبعد أن استقبلهم أحسن استقبال سألهم : من أنتم ؟ فقالوا : نحن الجن فمكث معهم في حديث وضيافة إلى أن انتهى الليل. وقال في ذلك:
وَنَارٍ قَـدْ حَضَـأْتُ بُعَيْـدَ وَهْـنٍ
بِـدارٍ مَـا أُرِيـدُ بِهَـا مُقَـامَـا
سِـوى تَحْلِيـلِ رَاحِلَـةٍ وَعَـيْـرٍ
أُكالِـئُـهُ مَخَـافَـةَ أَنْ يَنَـامَـا
أتوا ناري فقلت منون أنتم
فقالوا الجن قلت عموا ظلاما
طيب ياتأبط شرًّأ هذه القصة ممكن نجعلها تتجاوز من نقطة التفتيش ونقول احتمالية صدقها واردة لأنني شخصياً ذكر لي صديق أنه عندما أصابه المس الجني كان يتحدث مع الجني الذي تلبسه وكان يغششه في الاختبارات...تخيلوا؟! يمكن يكون بعضكم سمع من صديق أوقريب مثل هذا،فإذا كنتم سمعتم أو عايشتم -بسم الله الرحمن الرحيم- بعض هؤلاء فلا تبخلون وقولوا لنا لأنني حاسس إن بعض القراء بدأ يضع لي أنا نقط تفتيش بدل تأبط شرًّا...
المهم نتوقف بعد نقطة التفتيش ونتسآل : متى أصبح تأبط شرًّأ يتحدث عن الجن؟!
يظهر لنا من قراءتنا لشعره أنه أصبح يتحدث عن الجن بعدما كبر في السن وهذا ماصرح به في إحدى قصائده عن الغول وهو يرد على زوجته التي بدأت تحدث الناس أن تأبط شرًّا كبر في السن وضعفت قدراته ... وهنا يتضح لنا سبب حديثه عن الجن -وخذوه عندكم على انه اكتشاف- فتأبط شرًّا بكل سهولة كبر في السن وضعف تقدير الناس لقدراته وخوفهم من سطوته فتذكر الماضي الجميل ومر بذكره أن هؤلاء الجهلة كانوا يظنون أنه على علاقة مع الجن فأراد أن يعيد ذلك لذاكرتهم بقوة حتى يعود بعض الاحترام والخوف منه.
صراعه مع الغول:
-وهذه أكثر القصص شهرة في كلام تأبط شرًّا عن الجن فقد ذكرها في قصيدتين من قصائده وذكرت في كثير من كتب المنوعات الأدبية بل وبنى عليها بعض المؤلفين والوضاعين قصصاً تشبهها ولكن مع بعض التحسينات والإبداعات ونسبوها لأشخاص آخرين ؛وللأمانة فأول ورود للحديث عن الغول في الأدب العربي كان في شعر تأبط شرًّا ومنه أخذ الشاعر المشهور امرؤ القيس الكلام عنها وهذا مايزيد من إعجابنا بهذا الشاعر الذي كون مع الثالوث الرهيب زهير وامرؤ القيس والنابغة المربع الذي احتضن الشعر العربي وجعل له القالب الجميل الذي أحبه الناس فيه ولكن للأسف فكون تأبط شرًّا صعلوك كريه السيرة جعل بعض النقاد الأدبيين ينزلون به عن قدره الذي يستحقه باستثناء المفضل الضبي الذي جعل إحدى روائع تأبط شرًّا افتتاحية مختاراته الشهيرة والرائعة من شعر الجاهليين والاسلاميين.
- وملخص قصة تأبط شرًّا مع الغول أنه لقيها في إحدى غزواته عند مكان بعيد عن دياره اسمه "رحى بطان" وتحرشت به، فتصارع معها وضربها بسيفه ضربة ولكنها لم تمت فعاد ليضربها مرة أخرى بل ويتكئ بسيفه عليها حتى تأكد من موتها ثم ظل كذلك إلى أن طلع الصبح ولكن يبدو أن الخيال كان ضعيفاً عند شاعرنا لم يكن واسعاً فوصفها بصفات بسيطة فرأسها قبيح كرأس الهر ولسانها مشقوق وساقاها مثل ساقي الخديج ناقص الخلق وجلدة رأسها مثل جلدة الكلب وثوبها كعباءة من صوف قديم... على العموم نعذر تأبط شرًّا في عدم سعة خياله لأنه لم يعش في زمننا هذا زمن أفلام الرعب فطفل صغير اليوم يستطيع أن يصور للغول صورة أرهب من هذه التي يقولها تأبط شرُّا...المهم إليكم أشهر قصيدتي تأبط شرًّا عن الغول ولنا حوار طويل مع تأبط شرًّا بعدها:
أَلاَ مَـنْ مُبْلِـغٌ فِـتْـيَـانَ فَهْـمٍ
بِمَا لاَقَيْـتُ عِنْـدَ رَحَـى بِطَـانِ
بِأَنِّي قَـدْ لَقِيـتُ الغُـولَ تَهْـوِي
بِشُهْبٍ كَالصَّحِيفَـةِ صَحْصَحَـانِ
فَقُلْتُ لَهَـا : كِلاَنـا نِضْـوُ أَيْـنٍ
أَخُو سَفَـرٍ فَخَلِّـي لِـي مَكَانِـي
فَشَـدَّتْ شَـدَّةً نَحْـوِي فَأَهْـوَى
لَهَـا كَفِّـي بِمَصْقُـولٍ يَمَـانِـي
فَأَضْرِبُهَـا بِـلاَ دَهَـشٍ فَخَـرَّتْ
صَـرِيعـاً لِلْيَـدَيْـن وَلِلْـجِـرَانِ
فَقَالَتْ عُـدْ فَقُلْـتُ لَهَـا رُوَيْـداً
مَكَـانَـكِ إنَّنِـي ثَبْـتُ الْجَنَـانِ
فَـلَـمْ أَنْـفَـكَّ مُتَّكِـئاً عَلَيْـهَا
لأنْظُـرَ مُصْبِحـاً مَـاذَا أَتَـانِـي
إِذَا عَـيْـنَـانِ فِـي رَأْسٍ قَبِيـحٍ
كَـرَأْسِ الْهِـرِّ مَشْقُـوقِ اللِّسَـانِ
وَسَاقَـا مُخْـدَجٍ وَشَـوَاةُ كَلْـبٍ
وَثَـوْبٌ مِـنْ عَبَـاءٍ أَوْ شِـنَـانِ
- وهنا أقول : اسمح لي يا تأبط شرًّا ! ليس لأننا سمحنا لك بتجاوز نقطة التفتيش المرة السابقة من غير محاسبة تأتي اليوم بأشياء ملغمة وتضعها أمامنا بكل جرأة ! تعال هنا أليس للغول قدرة على التخفي عندما تصارعك؟! أليس لديها قوة أكبر منك؟! أنا يمكن أن أصدق أن ينتصر عليها شخص مسلم بذكر الله الذي يخضعها له. أمَّا كافر مثلك فاسمح لي لا أصدق أنه يقدر أن ينتصر عليها... وأنتم يامن تقولون لي خفف من غلوائك وهجومك على تأبط شرًّا أقول لكم تعالوا ياسادة وشاهدوا ماذا قال شاعرنا عنها في قصيدته الثانية! وكيف اختلف كلامه بصورة لاتدع لنا مجالاً للشك في كذبه ففي حين ذكر أنها هي من تحرشت به في المرة الأولى فهو يقول في القصيدة الثانية أنه هو من تحرش بها بل وغازلها وطلب منها ياناس أن تمارس الرذيلة معه لما رأى شكلها أعجبه وحين ذاك أرته صورتها الحقيقية الرهيبة ... ياتأبط شرًّا إذا كنت كذوباً فكن ذكوراً! فالإنسان -الذي يريد أن يكذب -عليه أن يتذكر كذبته كل مرة لكي يستطيع أن يعيدها دون اختلاف... وخذوا الآن القصيدة الثانية عن الغول التي يتحدث فيها مع زوجته التي بدأت تذكر للناس أن ثابتاً الذي هو تأبط شرًّا كبر في السن وضَعُف فيرد عليها ويفتخر أمامها بقوة يديه وسرعة جريه وقوة استدلاله للطرق ولو كان الوقت ليلاً، ثم يقول وياللغرابة! أنه وجدها في الصبح وضعت رحالها إلى جواره ويبدو أنها كانت في صورة فتاة جمية فغازلها الأخ وطلب منها ممارسة الرذيلة معه فانقلبت إلى صورتها الغولية فاستعد لقتالها، فاستعدت هي للهرب وولت، فلحقها وضربها بسيفه على رأسها ثم بدأ يصفها بأنها مثل عظاءة صحراوية وعليها ثوبان من طلح ولاحظوا اختلافه حتى في الوصف...وهنا كأن بعض فتيان فهم الأذكياء ما تقبلوا هذه الكذبة الكبيرة ولم يستطيعوا هضمها ، فقال لهم عن مكانها الذي قتلها فيه وهوالِّلوى -أي الكثبان الصحراوية- يعني ابحثوا يافتيان فهم عنها في كثبان الجزيرة العربية وأعطوني خبر إن وجدتوها !
وفي القصيدة الأخرى يقول :
تَقُـولُ سُلَـيْـمَـى لِجَـارَاتِهَـا
أَرَى ثَـابِـتـاً يَفَنـاً حَـوْقَـلاَ
لَهَـا الْوَيْـلُ مَـا وَجَـدَتْ ثَابِتـاً
أَلَـفَّ الـيَـدَيـنِ وَلاَ زُمَّــلاَ
وَلاَ رَعِشَ السَّـاقِ عِنْـدَ الجِـرَاء
إذَا بَادَرَ الـحَـمْـلَـةَ الْهَيْضَـلاَ
يَفُـوتُ الـجِـيَـادَ بِتَقِـرِيبِـهِ
وَيَكْسُـو هَـوادِيَهَـا الْقَسْـطَـلاَ
وَأَدْهَـمَ قَـدْ جُبْـتُ جِلْبَـابَـهُ
كَمَا اجْتَابَـتِ الْكَاعِـبُ الْخَيْعَـلاَ
إلـى أَنْ حَـدَا الصُّـبْـحُ أَثْنَـاءَهُ
وَمَـزَّقَ جِـلْـبَـابَـهُ الأَلْـيَـلاَ
عَلَـى شَـيْـمِ نَـارٍ تَنَـوَّرْتُهَـا
فَبِـتُّ لَهَـا مُـدْبِـراً مُقْـبِـلاَ
فَأصْبَحْـتُ وَالْغُـولُ لِـي جَـارَةٌ
فَيَـا جَارَتَـا أَنْـتِ مَـا أَهْـوَلاَ
وَطَالَبْـتُـهَـا بُضْعَهَـا فَالْتَـوَتْ
بِـوَجْـهٍ تَهَـوَّلَ فَاسْـتَـغْـوَلاَ
فَقُلْتُ لَهَا يَا انْظُـرِي كَـيْ تَـرَيْ
فَـوَلَّـتْ فَكُنْـتُ لَهَـا أَغْـولاَ
فَطَـارَ بِقَحْـفِ ابْنَـةِ الْجِـنِّ ذُو
سَفَاسِـقَ قَـدْ أَخْلَـقَ الْمِحْمـلاَ
إِذَا كَـلَّ أَمْهَـيْـتُـهُ بِالصَّـفَـا
فَـحَـدَّ وَلَـمْ أَرِهِ صَـيْـقَـلاَ
غَـظَـاءَةُ قَفْـرٍ لَهَـا حُلَّـتَـانِ
مِـنْ وَرَقِ الطَّلْـحِ لَـمْ تُـغْـزلاَ
فَمَنْ سَـالَ أَيْـنَ ثَـوَتْ جَارَتِـي
فَـإِنَّ لَهَـا بِالـلِّـوَى مَـنْـزِلاَ
وَكُنْتُ إذَا مَا هَمَمْـتُ اعْتَزَمْـتُ
وَأَحْـرِ إِذَا قُـلْـتُ أَنْ أَفْـعَـلاَ
اعجبتني فنقلتها