الحجرة المعتمة ..لا يكاد يدرك الشيخ رابح أنه يسكنها فتحويه..أو تسكنه الحجرة فتخفي ألاما فيه.. شعور ظل
يخالجه منذ أن ماتت زوجته الحاجة فاطمة وتركته في هذه الدنيا بلا أنيس اللهم طفلة ـ كانت تعيش معهما ـ هي الأخرى يتيمة الأبوين..
وتمضي أيام الشيخ رابح.. ثقيلة .. ثقل سنه.. حرب التحرير التي حفرت في أعماقه شيئا من الاعتزاز و..كثيرا من الانكسارات والألم.. جميع
رفقاء السلاح أخذوا نصيبهم من (تركة الحرب) إلا هو.. هو نفسه لا يدري لماذا حرموه (الامتيازات) التي تمنح عادة لقدماء المجاهدين..
لكنه كان دائما يقول بلهجة مفعمة بعزة النفس : ( لا آخذ ثمنا على واجب وطني أديته عن قناعة!) ..
وذات صباح.. يقرع باب حجرته صديق له قديم.. يجلس إليه بعض الوقت.. يسرّ إليه بكلام .. لم تستطع الطفلة مريم أن تعيه.. ثم خرج .. استعاذ
الشيخ رابح بالله من الشيطان الرجيم.. ثم نادى مريم بصوت مبحوح ..ناوليني ـ طفلتي ـ تلك عصاي! سأزور الحاكم هذا المساء..قد تركت داخل
السجن الحقيقة كل الحقيقة.. سأعود مرة أخرى إلى سجني..ربما هنالك سأحتضن الحقيقة! ساعديني .. ناوليني ما كنت قد طلبته منك.. إنه
الحاكم يدعوني إليه هذا المساء.. اقتربت منه مريم ..وهي لا تدرك من الأمر شيئا.. أمسكته من يده النحيفة المرتجفة كأيامه.. كسنه .. وهي
تقول:من يدعوك؟ لماذا؟ أنا لا أفهم شيئا مما يحدث.. جدي هلا أخبرتني بما يحدث؟..جدك يا ابنتي.. .. تكسرت نبرته .. غارت الكلمات في
حلقه..دمعت عيناه.. وهو الذي لم يبك ختى حينما فقد الأولاد والرفاق .. وفقد فاطمة زوجته.. جمع كل قوته .. استجمع ما تبقى فيه من شبق
الحياة.. ثم قال لها: ناوليني .. عصاي والعباءة تلك.. أنا يا بنيتي ذلك السجين الأبدي.. حجزوا عيناي ذات مرة..ثم منحوا جسمي البراءة.. فكيف
سأجتاز الحواجز؟ كيف أخطو؟ لقد منحوني ـ بنيتي ـ جرحا دفينا وعصا.. هذه المرة لا أدري إذا كنت سأعود! فخذي جرحي وأحزاني فربما ..لن
أعود....
هامش: حرب التحرير الجزائرية امتدت من 1 نوفمبر 1954 إلى غاية 5 جويلية 1962 ضد العدو الفرنسي بعدما استنزف البلاد والعباد ابتداء من 5 جويلية 1830 طيلة قرن وربع القرن!